pub

21/05/2011

حكومة الظل في تونس. أبعادها وخلفياتها.

.
ينقسم الشارع التونسي في نظرته لخفايا الحياة السياسية وكواليس السلطة. لتحليلات كثيرة كل حسب مرجعيته وكل حسب مقدار فهمه للسياسة الدولية وأسرارها. ففيهم من يعتقد إعتقادا جازما أن فرنسا هي التي تحكم تونس عبر ما يسمى بأبناء فرنسا تمثيلا لما يطلق عليه جنرالات فرنسا في الجزائر. وفيهم من يعتقد أن الأمر كله لا يعدو كونه مجرد فصل من فصول مؤامرة كبرى على الاسلام والمسلمين. وفيهم من يعتقد أن أمريكا هي التي تحكم عن طريق سفارتها وسيطرتها على رشيد عمار الذي يدير خيوط اللعبة في الخفاء منذ البداية. وفيهم من يعتقد أن أزلام النظام السابق هم الذين يحكمون أو بالتحديد فصيل منه علما وأن نظام بن علي مكون أصلا من تكتلات ومجموعات حاكمة تربطها مصالح مشتركة وتفرقها أيضا المصالح. هذه تقريبا الآراء السائدة وهناك بعض التحليلات الثانوية لا مجال لطرحها. في الحقيقة لا تسير الأمور في كواليس السياسة بمثل هذه البساطة. بل إن العلاقات والمصالح والشخصيات المتشابكة تشابكا كبيرا تجعل من الصعوبة الخروج بتحليل بسيط جدا وسطحي من هذا النوع الذي يلقي المسؤولية كلها على طرف واحد في تجني كبير على الحقيقة. إن الوضع السياسي في تونس رهين تجاذبات عديدة لعدة أطراف المهيمن فيها هو من يستطيع تمرير أكبر قدر من القرارات ويوجه بشكل أكبر المسار السياسي ومن هذا المنطلق نجد أن في تونس على الأقل ثلاثة مراكز قوى وجهات نفوذ مؤثرة في القرار السياسي سنستخلص تدريجيا منها الطرف الأكثر نفوذا وتأثيرا. الطرف الأول وهو الأكثر ارباكا في السياسة التونسية هو كوادر وزارة الداخلية والمرتبطين معهم سواء بتورط مشترك في فساد أو في تداولهم على الإشراف على هذه المؤسسة الأكثر حساسية وخطورة في تونس.
لقد نشأت وزارة الداخلية منذ البدء على حماية نظام بورقيبة من المتربصين به من مختلف التيارات سواء بقايا الفلاقة أو شركاء النضال السابقين. لذا عملت فرنسا على تجهيز الوزارة قبل تسليمها لبورقيبة للقيام بهذه المهمة اساسا لهذا نجد أن كوادر الداخلية يولون الجريمة القدر الأقل من الأهمية في مقابل إيلاء الأهمية الكبرى للأنشطة السياسية المعادية للنظام الحاكم. فلقد كان بورقيبة ضعيفا أول أيام حكمه ولن تطمئن فرنسا لمصالحها في تونس في يد رجل ضعيف سياسيا لهذا سعت لتأهيل كوادر وزارة الداخلية لكي تكون الداعم الاساسي له والطرف القادر على القضاء على اي محاولة انقلابية على بورقيبة وحين اطمأنت لقدرة الجهاز على حماية النظام الوليد تم منح تونس الاستقلال. فبقي الجهاز من وقتها موجها كليا نحو القضاء على أي محاولة لتغيير النظام وتمت إضافة هياكل عديدة مرة بنصائح من الخبراء الفرنسيين ومرة باجتهاد من أعوان بورقيبة الذين قادوا هذا الجهاز. فكان أن تضخم في مقابل تهميش كلي للجيش الوطني الذي لم يستطع لا بورقيبة ولا حتى ابنه بن علي منحه الثقة الكافية وبقي النظام في كلا فترتيه معتمدا اعتمادا كليا على وزارة الداخلية في ضمان استمراريته. وكانت طبيعة الجهاز وطبيعة مهمته الأساسية تجعل منه قطبا منفرا لكل الوطنيين وحتى لأبناء فرنسا المؤمنين بالديمقراطية على النمط الفرنسي والذين يستوردون كل نظم الدولة من فرنسا. مما لا يتماشى ودور هذا الجهاز. وفي نفس الوقت كان قطبا جالبا للمستبدين والقمعيين وانتهازيين فالصالحون يرفضون القيام بالدور الموكول لهذه الوزارة مما جعل كل قياداتها تقريبا من الفاسدين.وهؤلاء تمتعوا بصلاحيات كبيرة جدا ومع مرور الوقت اصبحوا جزءا من السلطة في البلاد سلطة تتفوق حتى على سلطة أعضاء الحكومة الذين أصبحوا حتى هم يخشون الأجهزة الأمنية حتى أن بعض الوزراء فقدوا وظيفتهم وتم ابعادهم بسبب تقرير أمني أو رغبة احد قيادات الأجهزة الأمنية. لذلك كان الطريق مفتوحا امام بن علي في نوفمبر 1987 للسلطة بعد أن أصبح على دراية بكل خفايا الأجهزة الأمنية بعد أن عمل فيها من أواسط السبعينات. مع رضا اصحاب القرار عليه وادماجه معهم وكون صداقات كثيرة وتشابك مصالح مكنه من ضمان دعمهم في انقلابه الشهير. الأجهزة الأمنية في وزراة الداخلية رغم خضوعها للسلطة السياسية لبن علي إلا أنه لم يثق بها كثيرا لهذا إعتمد على علي السرياطي رغم ان التويري رئيس امنه السابق يعتبر من الشخصيات الاقل سوءا في الاجهزة الامنية. في أمنه الشخصي وليس على أحد كوادرها لما يعرفه من فسادهم وغدرهم خصوصا وأن السرياطي كان السبب في انقلابه لأنه هو من أبلغه بكل تفاصيل انقلاب 8 نوفمبر بحكم مشاركته فيه وأغلب قيادات حركة النهضة يعرفون أن السرياطي من ضمن ضباط الجيش الداعمين لانقلابهم. وكانت صداقة السرياطي لبن علي جعلته يبلغه بكل التفاصيل ربما لأنه اعتقد أن ما قد يقدمه له بن علي من مكاسب أكبر مما قد تقدمه له الحركة. أو ربما لأن أياد أجنبية استخباراتية هي التي دفعته لذلك. فكانت مهمة السرياطي الأسياسية ليس فقط الاشراف على أمن الرئاسة بل يتعداه إلى محاولة اختراق الأجهزة الأمنية الاخرى والسيطرة عليها عبر تجنيد ضباطها وحتى أعوانها لحساب ما يطلق عليه اسم استخبارات الرئاسة. وهو جهاز غير رسمي إنما هيأه ونظمه السرياطي تحت إشراف بن علي شخصيا بحكم خبرته الاستخباراتية مع السي آي ايه. وكان أعوان هذا الجهاز يتلقون تكوينا خاصا ومهمتهم الأساسية ضمان أن تخدم الأجهزة الأمنية مصلحة النظام وحماية بن علي وضمان عدم حدوث أي انقلاب تدعمه وزارة الداخلية أو تكون هي مصدره. وكان أتباع هذا الجهاز منتشرون في جميع مراكز ومناطق الأمن وحتى في الإدارات العمومية الحساسة. ويتلقون إضافة لمرتباتهم منحا شهرية متفاوتة. ويجندون أيضا عملاء من المعارضة والنشطاء السياسيين تماما مثلما تفعل باقي الأجهزة خصوصا. وهؤلاء العملاء لا يعرفون لصالح من يعملون لأن ضباط المتابعة من أجهزة مختلفة. نجح بن علي في السيطرة على مقاليد الحكم ليس فقط بفضل السرياطي بل لأن الفساد الذي كان ينخر أغلب أجهزة الدولة لم يسمح بوصول كفاءات قادرة على الإصلاح وإحداث تغيير حقيقي في الدولة. فحرصت جميع الأطراف على الإبقاء على النظام لأن ذلك هو الشيء الوحيد الذي يحمي مصالحها ونفوذها ولم يرغب أحد في تغيير قد لا تحمد عقباه بالنسبة لمصالحهم. ونتيجة لكل ذلك تغولت الأجهزة الأمنية سواء سيطر عليها بن علي ام لم يسيطر وتضخم دورها السياسي حتى أصبحت لا تحدث صغيرة ولا كبيرة إلا وقد بلغت السلطة. ونتج عن ذلك سيطرة مطلقة على المعارضة التونسية. بحيث من لا يمكن إخضاعه يسجن أو يهجر. وتمت محاصرة كل نفس حر في تونس. ولم يبقي النظام إلا على أشباه المعارضة الذين يقبلون عقد صفقات مع النظام فلا توجد في تونس جمعية أو تيار أو حزب معارض خارج عن السيطرة. إما بوجود قسم هام من القيادة تحت سيطرة أجهزة الأمن وخاضعون لها في الخفاء أو بإعلان عدم المصادمة مع النظام بل وتزكيته أيضا. فتسرب فساد النظام إلى المعارضة أيضا فكثر فيها الانتهازيون حتى أنه هناك البعض ينشط في المعارضة ويبرز لا لشيء إلا لكي يتم تجنيده مع الأجهزة الأمنية ويحصل على امتيازات ومنح مجزية. وهناك من المعارضة من ينشط فقط لأنه يتلقى راتبا على ذلك سواء ممن يعمل معهم أو من الأجهزة الأمنية. حتى أصبح من المضحك لضباط الأمن إتهام أحد نشطاء المعارضة بالعمالة للبوليس فمن فيهم لم يتورط. باستثناء قلة قليلة جدا كانت الشاذ الذي يؤكد القاعدة. هؤلاء الشواذ لم تستطع الأجهزة الأمنية السيطرة عليهم فترصدتهم بالقمع بكل الأساليب. ومن يتمعن في وضع تونس طيلة العشرية الأخيرة يستطيع تبين هؤلاء القلة من بين الناشطين السياسيين. فلم يكن يسمح لأحد بأن يعارض فعلا ولا أن ينشئ جمعية أو حزبا لا يعجب النظام وليس تحت سيطرته وكل الجمعيات والتيارات السياسية التي نشطت باسم المعارضة وتتحدث عن نضاليتها وبطولاتها كانت تحت السيطرة وكان أغلب أعضاء هيئاتها المديرة من أعوان النظام. هذه حقيقة قد تفاجئ الكثيرين لكنها للأسف الحقيقة الوحيدة التي تبرر بقاء هذه جمعيات على قيد الحياة في نظام يقبر كل من لا يعجبه. وان أفلت من السيطرة بعض الأشخاص بحكم علاقاتهم الخارجية التي تحميهم إلى حد ما وتضع للسلطة خطوطا حمراء في مدى التعامل معهم. هذا كان وضع قيادات المعارضة ورموزها ومناضليها في حين كانت القواعد تعيش في وهم المثل والمبادئ والايدولوجيا ورغم ذلك وجد الفساد السياسي منافذ يتسلل من خلالها إليهم.
فكانت النتيجة تغول للأمن الرئاسي حتى أصبحت كلمة (أعمل في الرئاسة) تثير الرعب في قلوب الكثيرين. وأصبح الكثير من الوزراء يرتعدون من ذكر السرياطي وأزلامه. إذ لم يكونوا في منأ عن أعينه وأصابعه التي تنكل بهم بلا رحمة لو فكروا لحظة ضد نظام بن علي. فوجدت في الساحة غولان متداخلان ببعضهما أحدهم يسيطر على الآخر الأول هو الأجهزة الأمنية القديمة لوزارة الداخلية والثاني هو الجهاز الذي بناه علي السرياطي لحماية بن علي ونظامه. ولست ادري لم يصر الإعلام على أن خروج بن علي من تونس كان متزامنا مع حضر التجول والانفلات الأمني ربما لتتم التغطية على أحداث وقعت في كواليس الثورة يوم 14 جانفي فبن علي غادر تونس قبل منتصف النهار وعلي السرياطي لم يقبض عليه بعد يوم 14 جانفي والأرجح بعد بيومين وأن علي السرياطي بعد أن قرر بن علي المغادرة تحول لوزارة الداخلية لإعطاء الأمر بتنفيذ خطة الطوارئ التي يحفظها كل ضباط الأمن رئاسي. ولم يتحدث أحد أيضا على الخلاف الذي جد في أقبية وزارة الداخلية الذي وصل إلى حد إطلاق الرصاص في الوقت الذي كان فيه مئة وأربعون ألف تونسي يطالبون في الخارج برحيل النظام. فكانت الخطة الأمنية التي نتج عنها حالة الانفلات الأمني التي نعرفها جيدا وملخصها بث الإشاعات عن عمليات ارهابية وعصابات تروع الناس وإطلاق سراح جميع المساجين لتبرير العصابات و أيضا المطاردات وإطلاق الرصاص وقتل الناس. وإطلاق الآلاف من رجال الأمن سواء الرئاسي أو أعوانهم من الأمن العمومي بالأسلحة لبث الرعب ونشر القتل والفوضى والغاية الأساسية منها هي إجبار الناس على ملازمة منازلهم خوفا على أنفسهم وممتلكاتهم وبذلك يتم القضاء على المظاهرات والاحتجاجات. وثانيا إشعار العامة بأنهم أخطؤوا بطلبهم إقالة الرئيس وأنهم لن يستطيعوا أن ينعموا بالأمن والاستقرار إلا بفضله فتخرج فيما بعد أصوات منادية بعودته ومظاهرات تطالب بذلك طبعا يخرجها رجال الأمن أنفسهم باللباس المدني ويساندهم في ذلك ميليشيات التجمع. وكان رحيل بن علي بناءا على هذه الخطة والتي ينوي من خلالها العودة بشكل بطولي للسلطة. لكن جرت الرياح بما لا يشتهي بن على وأزلامه فتكون لجان الحماية بتلك السرعة والعفوية والحماس والشجاعة المنقطعة النظير لشباب تونس الذي وقف أمام الرصاص بصدور عارية في سبيل إنجاح الثورة نجحت في إفشال كل مخططاته إضافة إلى أن القرار قد صدر من أيام من طرف أصحاب القرار بان لا مكان لبن علي في تونس فهناك من كان يتربص به. فلم تنجح محاولته تلك وسعت فرنسا حثيثا عبر أبنائها في تونس لضمان عدم عودة بن علي لتونس مجددا قاطعة عليه سبل إنجاح مخططه الدموي. وكان الغنوشي وبعض وزراء بن علي على علم بتفاصيل الخطة الأمنية ومتواطئين فيها لهذا لم نجد تتبعا لسيارات التأجير التي تم إيقافها مليئة بالأسلحة والمسلحين ولا لسيارات التاكسي أيضا ولا لسيارات الأمن نفسها وهي تعد بالمئات انتشرت في كامل أنحار الجمهورية لتنفيذ الخطة. فلم يتتبعها ولا أصحابها لا الغنوشي ولا السبسي رغم أن لجان الحماية استطاعت القبض على الآلاف منهم باعتراف الجيش الذي أعلن في خطأ مرده سوء التنسيق على القبض على أكثر من ثلاثة آلاف مسلح من رجال الأمن باللباس المدني. وتلاشى هؤلاء مباشرة بعد خطاب أحمد فريعة التي كان وزير داخلية وقتها والذي توجه به إلى بقايا رجال الأمن طالبا منهم التوقف عن تنفيذ الخطة الأمنية وتسليم أسلحتهم لأقرب منطقة شرطة أو ثكنة جيش وعفا الله عما سلف. هؤلاء هم القناصة الذين يبحث عنهم الشعب تعرفهم الحكومة فردا فردا وتعرف جيدا أنهم لم يخالفوا القانون لأنهم كانوا يؤدون وظيفتهم بمهنية عالية وكل ما قاموا به كان بتكليف من قيادتهم المتمثلة في بن علي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة وعلي السرياطي بصفته رئيس جهاز الأمن الرئاسي وباقي رؤساء المصالح الأمنية مع عدم التغافل عن وزير الداخلية الذي كان على علم بكل شيء. لهذا لا يمكن هذه الحكومة أن تحاكم أيا من القناصة فهي كانت متواطئة معهم. ولهذا السبب حين أرادوا أن يكون علي السرياطي كبش فداء يضحون به لقاء تأمين أنفسهم هدد وطالب بوسائل الإعلام خلال التحقيق لأنهم كانوا كلهم غارقون في نفس الجرائم. ولم يجد السرياطي سوى أن يهددهم بتهديد شمشون (عليا وعلى أعدائي) منذرا إياهم بأنه سيروي الحقائق كاملة. لكنهم لا يعلمون أن الحقائق تسربت فعلا من بين أيديهم. فاضطروا لأن يماطلوا في قضيته ويحاولوا أن يبرؤوه إعلاميا وإلى الآن لم يتم إحراز أي تقدم في التحقيقات معه وبدؤوا في التخبط للخروج من المأزق الذي وقعوا فيه باعتقال كبش الفداء المتمرد والصعب المراس السرياطي فمرة يصرحون بأن القناصة إشاعة ومرة يقولون بأنهم في السجن ومرة يقولون بأنهم أصدروا بطاقة جلب في العشرات من رجال الأمن بحثا عن أكباش فداء أخرى يمكن التضحية بها عوض السرياطي الذي تبين أن لحمه مر ومن ذلك عشرات الضباط الذين يحاكمون الآن وأهاليهم وزملاءهم يتظاهرون لأجلهم. هم على الأرجح شاركوا فعلا في الانفلات الأمني لكنهم فعلوا ذلك بناءا على التعليمات في جهاز تعودوا مذ دخلوه على أن لا يخالفوا أبدا التعليمات لكن هؤلاء لا يستطيعون التهديد بكشف المستور لأنهم يعلمون أن رؤساءهم وزملاءهم سينكلون بهم وبعائلاتهم لو فعلوا وهم أدرى الناس بتنكيل رجال الأمن.. فكان الضغط الشعبي خصوصا في البداية شديدا عليهم مما جعلهم يخطئون كثيرا لدرجة أن حقائق كثيرة تسربت منهم بسبب أخطائهم تلك. وبدا التخبط واضحا في قرارات الغنوشي الخفية. ولعلنا كلنا نذكر تحذيره من أمرين مهمين جدا أولهما يخص هذا الفصل من المقال والثاني سنذكره في مكانه. الأول هو تهديده الذي جاء في شكل تحذير من حمام دم أنقذ منه البلاد وربما ستسقط فيه البلاد لو أصر الشعب على إنجاح ثورته. هذه الأجهزة الأمنية وجه لها الراجحي ضربة قوية جدا حين أطرد منها عشرات المديرين الفاسدين وبالرغم من أن بدلاءهم في الغالب هم من يلونهم رتبة إلا أن العملية جعلت الكثير من رجال الأمن يفكرون بجدية في تغيير تعاملهم مع الثورة وشباباها في حين أرعب ذلك آخرين فازداد حرصهم على قمع الثورة خوفا على مصالحهم ولرغبتهم القوية في إرجاع الأمور كما كانت وكما وعدهم رؤساءهم الذين لطالما كرروا لهم أن الأمور ستعود كما كانت عليه تدريجيا وأن هذه الأوضاع مؤقتة. ومن أخطر هؤلاء الذين بقوا طويلا ينعمون بالحرية محمد علي القنزوعي الذي عرفت عنه علاقاته القوية بأجهزة المخابرات الدولية وتحديدا السي آي إيه والموصاد. ورغم تورطه في الفساد والرشوة وحتى الجوسسة فإنه حافظ على مكانة جيدة داخل الأجهزة الامنية مما يفضح التبعية المطلقة للدول الأجنبية (اسرائيل وأمريكا). لهذا فمن المؤكد أن هناك خدعة كبيرة تم استدراج محمد علي القنزوعي بها من مالطا لتونس حيث تم القاء القبض عليه عشية تصريحات الراجحي والأرجح أن كمال لطيف هو من سعى لعودته كي يستعين به على تمرير مخطاته.
ليس ضباط الأمن فقط يريدون عودة الأوضاع لما كانت عليه. وليس فلول التجمع فقط أيضا بل قسم كبير جدا من مناضلي المعارضة والحقوقيين الذين لطالما انتفعوا من نظام بن علي ومورطون معه للنخاع ويخشون كل الخشية من فضح تورطهم هذا. هؤلاء الذين يملؤون الهيئة العليا باسم الوطنية. وهؤلاء هم الأكثر خطرا على الثورة لأن عددا كبيرا منهم لازال على اتصال مع الأجهزة الأمنية رغم قطع المنح عنهم ويقدمون تعاونهم لإرجاع الأوضاع كما كانت. وهذا ربما يعتبر الامر الاكثر خطورة على الثورة حين تقع بين ايدي عميلة عملت وستعمل دائما تحت سلطة الاجهزة الامنية وستساعد حتما في زيادة تغولها.
الطرف الثاني في حكومة الظل هي مجموعة من رجال الاعمال واعوانهم من رجال الجيش والسياسة والامن. وقد فضح السيد فرحات الراجحي الرجل الأول في هذا الطرف. الرجل الذين كان وراء تغيير 7 نوفمبر ووراء تغيير 14 جانفي ولازال يحرك في الكواليس بيادقه للسيطرة على الأوضاع. كان أهم سلاح عنده هو السرية والثاني هم ارتباطاته مع كثير من المتنفذين بحكم سيطرته على امبراطورية اقتصادية في تونس. ومعلوم أن رجال الأعمال والاثرياء يتاح لهم الاطلاع على كواليس السلطة اكثر بكثير من غيرهم بل أكثر أحيانا حتى من مسؤولي الأجهزة الأمنية. وهؤلاء يرتبطون ببعضهم بمصالح متشابكة ولهم علاقات داخلية وخارجية قوية. وللتدليل فقط نذكر أن المجلس الماسوني في تونس المكون من خمسة أعضاء رحل كبيرهم يوم 14 جانفي وبقي منهم أربعة كان على رأسهم كمال لطيف الذي لا أعرف بالتحديد مستواه في الترتيب الماسوني لكنه حتما له مستوى عالي ويمكن بقليل من التمحيص معرفة الثلاث أشخاص الآخرين في هذا المجلس فقليلون هم رجال الأعمال الذين يمكن أن يشغلوا هذا المجلس. ومعلوم أن الماسونية تستعمل رجال السياسة كدمى تتحكم من خلالها بالأوضاع العامة للبلاد عبر أساليب تأثير متعددة ومعلوم أيضا أن الصدام بين كمال لطيف وبن علي تزامن مع محاولات أفراد عائلة ليلى الطرابلسي إقتحام عالم المال والأعمال عبر نصيحة من أحد أفراد المجلس مختلف عن كمال طبعا. لأن بن علي أصبح يعلم وقتها أنه ان أراد أن يخلد في السلطة يجب أن يسيطر على المجلس وبالتالي على عالم المال والأعمال وكانت زوجته هي من يدفعه نحو ذلك دفعا وقد خلب لبه بريق المجد والسلطة. خصوصا وقد نجح خلال التسعينات في بناء قلعة أمنية ضخمة يمكنها حمايته وتأمين تلك الرغبة. فكان الصدام بين كمال لطيف وبن علي هو صدام سلطة فكمال لطيف الذي ضل يحكم من وراء الستار هو ورفاقه أصبح غير مرغوب فيه بالنسبة لليلى التي تحكم هي ايضا وتريد تعزيز سلطتها عبر أقاربها عبر تعزيز سلطتها على عالم المال والأعمال. وبحكم العلاقات القوية بين رجال الأعمال في تونس الكبار المنضوين جميعا تقريبا تحت لواء الماسونية وباقي الماسونيين في العالم فقد أمكن لهم الحفاظ على بقاء النظام في تونس رغم رعونة الطرابلسية وعنهجية ليلى السياسية. واندلعت الأحداث في تونس وتطور الوضع إلى حد إطلاق الرصاص على المتظاهرين بأمر مباشر من بن علي شخصيا الذي كان يتصور الأحداث لا تعدو أن تكون انتفاضة كانتفاضة الخبز وانتفاضة نهاية السبعينات يمكن إخمادها ببعض مئات من القتلى كما حدث سابقا تحت امرته. وقد أثبت بذلك أنه فعلا لازال يفكر فعقلية أمنية وليس سياسية إضافة إلى أنها عقلية قديمة جدا لا تواكب التطور الكبير في وسائل الاعلام وفي العقلية عامة للتونسيين ومستواهم الثقافي. ومع تطور الأحداث تحرك كمال لطيف من جهته خصوصا بعد أن رفض ضباط الجيش الانصياع لأوامر رشيد عمار باطلاق الرصاص على المواطنين العزل فقام باتصالاته الخارجية والداخلية ونجح بسرعة في عزل بن علي وعائلته لكثرة المتذمرين منهم من الساحة. وكمن يترقب الفرصة في القوت الذي كثف فيه رشيد عمار اتصالاته بالسفارة الأمريكية. وحين اتصل الفرنسيين ببن علي وطالبوه بالتخلي التدريجي عن السلطة عبر خطة يمكن اعدادها بسرعة رفض ذلك معتبرا نفسه قادرا على الصمود وقمع الانتفاضة لم يكن يشعر وقتها بن علي بأن الماء يجري بين قدمية وأن المتربصين به من الداخل أقوى من انتفاضة الشعب. وأن الانتفاضة مجرد تعلة للانقلاب عليه. وفي الوقت الذي كان يقوم فيه بالمشاورات للتعامل مع الاضطرابات المتصاعدة خاصة مع رجال الامن يقوم كمال لطيف بمشاوراته أيضا لاسقاط بن علي معتقدا أن الشعب يمكن اسكاته بمجرد طرد بن علي ومحاكمة بعض كباش الفداء ورفع فزاعة الجوع والأزمة الاقتصادية. وكان الموعد يوم الجمعة مفاجئا للجميع فتصاعد حدة الاضطرابات لم يكن ينبئ بانفجارها يوم الجمعة تحديدا بل كان يعتقد انها ستتواصل بعدة ايام أخرى قبل أن تنفجر. لكن واضح أن ما حدث ليلة الجمعة من عنف شديد في كامل أنحاء الجمهورية وحرق لأغلب مراكز الشرطة وشلل نسبة كبيرة من منظومة الأمن بسبب ذلك. جعل رجال الأمن يترددون في قمع المظاهرات. وواضح أيضا أن هناك من سرب اليهم أمرا بعدم قمع المظاهرات المزمع القيام بها في شارع الحبيب بورقيبة بشكل وحشي خصوصا وان العشرات من الصحفيين الأجانب سيكونون موجودين هناك. ولم يكن أغلب المراقبين يتوقعون تلك الاستجابة الكبيرة للمواطنين لكن كان هناك من ينتظر نصف تلك الاحداث ليقنع بن علي بالتنحي. وفعلا هناك من قام باقناع بن علي بالتنحي مؤقتا والرحيل لتطبيق الخطة الأمنية المعروفة ثم يعود بعد ايام بثوب البطولة. وقف المجلس الماسوني التونسي بكل أعضائه مع هذا التمشي مما أجبر بن علي الذي شعر بأن وراء الأكمة ما وراءها على الرحيل خاصة وأن ضغط الوقت لم يسمح له بالروية ولم تتح له الفرصة للقيام باتصالات كافية. وقد اضطروا لنقبه عبر هيليكوبتر ليرى بعينه المظاهرات العارمة في شارع الحبيب بورقيبة. مما أقنعه بضرورة الرحيل فعلا وكان شرط بن علي هو حماية أقاربه.
ومباشرة بعد رحيل بن علي تجمع رشيد عمار والهادي البكوش وكمال مرجان واثنان آخران في قصر قرطاج وتم استدعاء محمد الغنوشي وبعض الوزراء الآخرين ومستشاري الرئيس (بن ضياء والقلال) وقاموا بالمشاورات اللازمة لمرحلة ما بعد بن علي لضمان انتقال السلطة السلس لمن يقرره كمال لطيف الذي أخذ مكان بن علي في المجلس. وكان مخططا بنصيحة أجنبية أن يكون أحمد نجيب الشابي في ذلك المكان. ثم خرج الغنوشي في تصريحه التلفزيوني الشهير. وبدأت من وقتها المطبات في وجه مخططاتهم. فالشعب مصر على أن ما قاموا به هو ثورة ويجب ان تكتمل. وأبدت الجماهير وعيا غير متوقع. ورفض أهالي سيدي بوزيد والقصرين اعتبارها ثورة جياع ورفضوا الاعانات المادية. وكان كل اعتمادهم على المال لاخراس الجميع. لكن الواقع كان غير ما يشتهون. خصوصا مع اشتعال الثورة المصرية التي الهبت حماس التونسيين وزادت من ثقتهم بأنفسهم وبما فعلوه وكبرت الثورة في نفوس الناس. وتتالت الأحداث وكثرت الأخطاء وتتال الفشل وراء الفشل. لكن الدعم الأجنبي والخبرة السياسية ورفع شعار طرد التجمعيين جميعا الذي جعلهم يلتفون حول بعضهم ويساندون بكل قوتهم التي اكتسبوها من تغلغلهم في مؤسسات الدولة تمشي كمال لطيف وعصابته. وكان العدو الأول له سياسيا هو حركة النهضة. وما سماحه باعطاء تأشيرة لها إلا محاولة منه لتهدئة الشارع وكسب دعمها لأحمد نجيب الشابي. باعتبار قدرته على حضر الحركة حين يستتب له الحكم في اي وقت. لكن عدم هدوء الشارع جعله يندم على ذلك. خصوصا وأنها استطاعت أن تدفع بقوة نحو خياراتها. ولم يكن اعتصام القصبة بالحسبان ولا نتائجه متوقعه. وبالرغم من ذلك لازال يتشبث كمال لطيف بالنفوذ مع تراجع سقف أهدافه. وما جعل كمال لطيف ومن معه يلقون صعوبات جمة ايضا عدم قدرته على السيطرة الكاملة على وزارة الداخلية التي تدفع بدورها نحو الابقاء على النظام السابق الذي يحميها ويحمي نفودها المكتسب. فكان تعيين الراجحي على رأس وزارة الداخلية خطأ كبيرا أيضا أدى في النهاية للقضاء على جل نفوذ كمال لطيف وأسقط كل مخططاته. فحين تم الايعاز للراجحي بطرد بعض المديرين الذين لا يستجيبون لمتطلبات الوضع عبر رشيد عمار الحليف الاكبر لكمال لطيف. لم يكونوا يتوقعون قيام الراجحي بطرد وتجميد كل المديرين وليس فقط من طلب منه أن يطردهم. مما أربك العملية وعطل المؤامرة. ومع كل فشل وخطأ يجد كمال لطيف من معه من رجال الاعمال ورشيد عمار وعصابتيهما مدفوعين نحو آخر الحلول لهما وأسوءها وهو الانقلاب العسكري. مع علمهما بصعوبة نجاحه وصعوبة استجابة الوضع له. وقيام الراجحي بطرد جميع المديرين وليس فقط من تم الايعاز له بهم أربك خطتهم فالانقلاب لا يمكن أن يحدث الا بالاشتراك بين الأجهزة الأمنية والجيش. ولن يتم ايضا إلا بنشر الفوضى والعنف وفبركة الانفلات الأمني وتصعيد درجة الخوف عند الناس لاقصى حد لها والاسباب المؤدية له. فلا يمكن اقناع الناس بقبول الانقلاب إلا بنشر الذعر والخوف والترهيب. وكان هناك حلفاء يمدون جسور التواصل معهم في الداخل والخارج وخصوصا الخارج الذي يرقب بحذر شديد الوضع في تونس ويسعى جاهدا إلى افشال الثورة بأي وسيلة كانت فالنظام العسكري الجزائري مستعد لاراقة نهر من دماء في تونس لكي يحمي وجوده في بلده ومصالحه. ويعلم أن نجاح الثورة في تونس تعني بالضرورة ثورة مرتقبة في الجزائر وإن تأخرت. وعصابة القذافي أيضا التي تحيط به وبأبنائه وتقنعهم بضرورة البقاء وبأن معركتهم معركة حياة أو موت وأنهم لن ينجحوا ابدا في إعادة السيطرة على ليبيا إلا عبر إفشال الثورة التونسية ويسعون لذلك بكل ما أتيح لهم من مال وقوة. ومن وراء كل ذلك أيضا يوجد باقي سلاطين العرب الذين يسعون جاهدين بكل ما أوتوا من امكانيات ديبلوماسية واقتصادية وحتى اعلامية إلى تمييع وافشال الثورة التونسية والمصري لانهم يعلمون أن عروشهم اهتزت في عنف وأنها لن تستقر إلا بافشال الثورتين وقتها ستستقر أكثر وستفقد شعوبهم أي أمل في الاصلاح والتغيير. وسيضمن ذلك بقاءهم وأبناءهم من بعدهم لجيل آخر على الأقل تكرارا لنكسة 67 التي أفقدت العرب الأمل في استعادة فلسطين لجيل كامل أو جيلين قبل أن يتجدد الأمل بفضل الثورة التونسية وما بعدها. ومخطئ من يظن أن وراء الانقلابيين في تونس الأنظمة الغربية. صحيح أن هناك ديلوماسيين وسياسيين ورجال أعمال غربيين يساندون الانقلابيين لكن موقفهم ذلك مرده علاقاتهم المصلحية بقادة الانقلاب العرب ومساندتهم لهم وخاصة حرص النظام العسكري الجزائري والليبي على اقحامهم في العملية بأي شكل. والملايين تفتح الكثير من الأبواب وتشتري الكثير من الرجال. أما بالنسبة للأنظمة الغربية فالموقف مختلف تماما ولقد حسم الأمر لديهم لصالح حركة النهضة ولقد بدؤوا بالفعل في الاعداد للمرحلة النهضوية القادمة والكل يتسابق الآن لربط علاقات قوية معها لضمان مصالحها في تونس أو لخلق مصالح جديدة. ويجب أن نميز جيدا هنا بين الأنظمة بمفهومها الشامل والواسع وبين القيادات السياسية بمفهومها الفردي أو الحزبي أو التكتلات. فالأنظمة تتحرك ببطئ وتلزمها العقلية المؤسساتية والمواثيق والعهود والاتفاقيات والمصالح العامة وتؤثر فيها أكثر بكثير من العقلية الفردية المصلحية الضيقة. ومسارها اقوى بكثير من المسارات التي يصنعها الأفراد مهما تكاتفوا.
نعود الآن لتونس فحين فشل التمشي الذي لعبه محمد الغنوشي اضطروا إلى تغيير إستراتيجيتهم وتوخي تمشي آخر يحقق لهم أهدافهم أو أكبر قدر منها على الأقل. وكان رجل المرحلة هنا الباجي قايد السبسي بالرغم من خلافه الكبير والقديم مع الهادي البكوش أحد مهندسي العملية والمشرف على الإعلام. وقد كان السبسي من أصدقاء كمال لطيف وتربطه به علاقات مصلحية وسياسية ومؤهلا أكثر من غيره للتعامل مع المد الشعبي الغاضب. وسارت الأمور في هدوء وكانت اللعبة تسير على وجهين. إما استقرار وهدوء فتمرير لكل ما يريدون أو مظاهرات ورفض لما يريدون تمريره فقمع وعنف وانفلات أمني مفتعل ونهب وحرق كشكل من أشكال العقاب الجماعي. يعني اما أن تقبل ما أفرضه عليك أو أحطم انفك. وكلما تصاعد رفض ما يريدون تمريره وتصاعد الاحتجاجات كلما وجدوا أنفسهم مدفوعين للخيار الأسوأ دفعا. فمع تصاعد الاحتجاجات يتصاعد العنف ويتصاعد القمع ويتغلب الحل الأمني على الحل السياسي. وبالتالي تتغلب فكرة الانقلاب العسكري على فكرة الانقلاب السياسي على الثورة. فنحن أمام معادلة سياسية واضحة. في البداية لم تكن ثورة. لكنهم خدعوا الشعب وقالوا له أنها ثورة. معتقدين أنهم يمكنهم برفع شعار الثورة يمكنهم تخدير الشعب بنشوة الانتصار السهل وإخراسهم بعد ذلك ببعض المال. لم يفعل ونيس مثلهم حين تحدث عن انتفاضة فذلك اسمها الحقيقي في البداية. والشعب صدق الثورة وأصر عليها ومتشبث بجعلها ثورة تقطع مع الماضي قطعا نهائيا. كانوا يتوقعون أن يرقص الشعب مبتهجا بالثورة ثم يذهب كل لشأنه. لم يتوقعوا أن يصر الشعب على جعلها ثورة حقيقة. ولولا الفايسبوك لسارت الأمور كما يشتهون. لكن عدم استعابهم لتكنولوجيا العصر ولمستوى وعي الشباب جعل حساباتهم تخطئ. فبين إصرار الشباب على جعلها ثورة وبين إصرار السلطة على التعامل معها باعتبارها مجرد انتفاضة تكمن المعادلة ويكمن الصراع. وفي كل يوم يجني الشعب مكاسب على حساب الطرف الآخر. وما تصريحات الراجحي إلا هزيمة جديدة للحكومة وعصاباتها ومكسب جديد للشعب وللثورة. ففي حين كانت النخبة السياسية والمثقفة في السابق قليلة العدد ويمكن إخراسها بسهولة سواء بطريقة السبعينات او بطريقة الثمانينات او حتى بطريقة التسعينات. خصوصا وان السلطة تحتكر كل وسائل التواصل الشعبي وتسيطر عليها سيطرة كاملة تمكنها من محاصرة كل من ينفلت عنها برأيه أو موقفه. أضحت النخبة السياسية اليوم أوسع بكثير جدا وتشمل أطرافا لا يمكن السيطرة عليها أولا لعدم تنظمها وثانيا لقدرتها على النشاط خارج إطار القانون ومجاله. وثالثا لاتساع الطبقة المثقفة والجامعية خصوصا من الشباب المتحمس والخارج عن السيطرة التنظيمية بحكم سياسة بن علي الاقصائية. واهم شيء على الإطلاق هو تحرر وسائل الإعلام والتواصل الشعبي بشكل كبير جدا عن النظام السياسي بطريقة لا رجعة فيها ولا تدارك. وعززت ذلك وسائل الإعلام الدولية التي أصبحت تستطيع التقاط أطراف الأخبار من الانترنت للتنقل إلى عين المكان ورصد الأحداث بعد أن كانت لا تسمع شيئا عما يحدث في تونس من فضائع. وخروج الفضائيات عن السيطرة الحكومية القطرية وعولمة الإعلام الذي أصبح خاضعا للقوانين الدول الغربية (الديمقراطية). والمواثيق الدولية وليس للقوانين المحلية. ساعدت كل تلك العوامل على فقدان السيطرة على الأحداث في تونس مع التوازي مع التطورات في الشأن المصري الذي أصبح ردفا للثورة التونسية وداعما. وأصبح الشعبان وكأنهما في حلبة سباق يتنافسان في السعي للديمقراطية والحرية ويتسابقان لها.
ولم يستطع السبسي بليونته ومكره أن يخدع التونسيين ورغم أنه استطاع تمرير الكثير من القرارات والمسارات لكنه يعلم جيدا أن كل ما مرره فاقد للشرعية الشعبية وأن الأغلبية ترفضه وشتان بين أن يقتنع الشعب بمسار سياسي معين وبين أن يفرض عليه دون قبول. في السياسة يفقد ذلك التمشي أهميته وفاعليته حين يفتقد القبول الشعبي. لذا يجب توفير نسبة القبول الدنيا الضرورية والتي لم تتوفر بجماعة القبة. لهذا كان مضطرا للتراجع قليلا أحيانا كي لا يفقط الشعرة التي تربطه بالشرعية الجزئية التي يتمتع بها. وحين حسمت الأنظمة الغربية موقفها من النهضة ومن المستقبل السياسي في تونس وجد السبسي نفسه مضطرا لمجاراة المسار الدولي وفي نفس الوقت لا يملك أن يصطدم بالمسار الانقلابي في الداخل وهو يدير الوضع العام بشكل دقيق جدا. خصوصا وان السبسي ليس من النوع الذي يعمل بالتعليمات. فما كان مقتنعا به يفعله وما لم يقتنع به يسعى لعدم القيام به وهو في ذلك يمتلك حدا لا بأس به من الثقة في النفس ومعرفته الدقيقة بالساحة السياسية التونسية تجعل من الصعب الضغط عليه بشكل كبير. في نفس الوقت لا يملك المجال الحيوي والبشري الصالح لتحقيق ما يريد فوجد نفسه مضطرا لتقديم بعض التنازلات وأن يهادن البعض ويوارب البعض كي يستطيع التأثير بأكبر شكل ممكن في مجريات الأحداث. وهنا تتداخل قراراته مع رغبات أعوانه وحلفاءه ورغبات ما يمكن تسميته (خصومه السياسيين). وبين الانقلابيين والمصرين على المسار السياسي المعلن داخل حلفائه يجد نفسه في وضع حرج ودقيق. في مقابل الطرف الآخر الضائع بين المصالح الشخصية الضيقة ومبادئ وقيم الحرية والديمقراطية.
وبين الطرف الأول الانقلابي الذي يقف خلفه النظام العسكري الجزائري والليبي وبعض سلاطين العرب والطرف الثاني الذي يقف خلفه المنتظم الدولي يجد التونسيين أنفسهم بين المطرقة والسندان. لكن مسار الانتقال السياسي في العالم اليوم يكشف بشكل واضح جدا أن العالم كله مقبل على تغييرات جذرية في نظامه العام وبقد بدأت بوادر هذا التغيير منذ نهاية الثمانيات فبالرغم من أنه يحمل اسباب خوره في داخليه ويظهر هذا الخور في الأزمات الاقتصادية العالمية المتتالية والتي تتكرر كل عشرية تقريبا في منتظم قائم على القيم المادية البحتة. والانحلال الاجتماعي والأخلاقي المتصاعد بشكل كبير جدا لكن عوامل انهيار هذا النظام ليست مرتبطة به هو فقط بل مرتبطة ايضا بالبديل السياسي الذي سيقوم مكان هذا النظام. فمادام لا يوجد بديل قادر على ذلك فسيبقى هذا النظام. ومع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات بدا واضحا أن المد الاسلامي بدأ ياخذ مكانه في العالم فمن جهة بدأت ايران تتخلص من اختناقها بسبب الحصار الاقتصادي والسياسي الدولي والطفرة التي شهدتها ماليزيا بعد وصول الحزب الاسلامي بقيادة مهاتير محمد وأنور ابراهيم ونجاحهما في تحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية وثقافية متميزة. وتصاعد بالتوازي مع ذلك الفكر الاسلامي الثوري الذي أصر على أن يرث مجاله من الاتحاد السوفياتي المنهار في الشيشان وداغستان وبقايا يوغسلافيا والصومال الخ.. وظهر لأول مرة منهج عقدي وفقهي كامل من داخل المنظومة الاسلامية يتبنى فكرا ثوريا عنيفا فيما يسمى بالفكر الجهادي. بعد أن كان أنصار هذا الفكر هم الاخوان الذين ورثوه عن مشايخ الطرق الصوفية التي قادت المقاومة في بعض الدول العربية ضد الاستعمار. ومع تصاعد الرفض العنيف للمنتظم الدولي وبدء الصدام المباشر مع الجهاديين في عدة جبهات بدأ حساب التنازلي للحضارة الغربية المادية لصالح الحضارة الاسلامية الناهضة. وبعد عدة فصول من هذا الصراع الدامي طيلة عشرين سنة انتهى الفصل الأخير وانتهى دور الجهاديين وبدأ دور الشعوب التي بلغت قدرا من الوعي والايجابية تسمح لها بأخذ المبادرة وبناء الصرح البديل الذي سيسقط النظام القائم ويقيم بدلا عنه نظاما عالميا جديدا. وهذا يحيلنا لصورة النحات الذي يبدا أولا بشحذ الخشب ويزيل عنه القشرة والشوائب وهذا ما قامت به حركات المقاومة المسلحة وهو أمر لا يتطلب تنظيرا ولا مستوى فكريا عاليا. ثم أخذت عنها المبادرة تنظيمات الاسلام السياسي الذي يتطلب مستوى تنظيريا فكريا ارقى مثل النحات الذي يحتاج بعد ذلك لعدة آلات لكي يزيل القطع الخشبية الكبيرةويبقى فقط الهيكل العام للمنحوتة التي يريد نحتها. ثم ياتي بعد ذلك الجهاديون الذين ينطلقون من مرجعية فقهية دينية عاطفية بالاساس وثورية وهي تشبه الملكة الفنية للنحات الذي يقوم بشحذ مشاعره وعاطفته لكي ينحت الصورة التي تسكن ذهنه بتفاصيلها. ثم في النهاية يقوم باللمسات الفنية الأخيرة وتهذيب التفاصيل الصغيرة والتي تعطي جمالية ابداعية على عمله وهي ما تقوم به الشعوب في ثوراتها لكي يصبح كل الأفراد مشاركين في التغيير وليس فقط نخبة منفصلة عن الشعب.
وفي الختام يجب التأكيد على أن المسار الذي ينتهجه العالم لن يؤدي إلى إلى نجاح الثورات العربية ثم الاسلامية وإقامة نظام عالمي جديد لا وجود لاسرائيل فيه وأن قوة هذا المسار أكبر بكثير من اية قوة أخرى قد تتصدى إليه. وهو مسار أكبر بكثير من الثورة التونسية أو المصرية. والله متم نوره ولو كره الكافرون.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.
بقلم مراقب عام


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire